الديمقراطية الصورية
والديمقراطية التشاورية/ التداولية/التواصلية عند يورغن هابرماس.
من تقديم الطالب الباحث: بلقاسم مليكش
ماجستير فلسفة غربية
حديثة ومعاصرة
اشراف الأستاذ: الدكتورعبد القادر بليمان
وحدة: الفلسفة السياسية
مقدمة:
مع بروز مظاهر التفكك في المعسكر الشرقي الاشتراكي في السبعينات، ظهرت حركات
فلسفية نقدية وبنائية داخل المعسكر الرأسمالي في أوربا وأمريكا، اتجه بعضها نحو
تجديد الدولة الديمقراطية عن طريق تطوير المفاهيم الماركسية في ضوء تطور وتكيف
الدولة الرأسمالية مع مطالب الطبقة العاملة، حيث بدأت في ألمانيا مع الأعمال
النقدية التي طرحها أعضاء "مدرسة فرنكفورت". وانتهت مع هابرماس Jurgen Habermas
على الخصوص إلى البحث عن تحديث الديمقراطية بالاستناد على معطيات العلوم الاجتماعية
والعلوم اللسانية، واتخاذ العلاقة التواصلية منطلقا نظريا جديدا لإعادة بناء
المجتمع والدولة على أساس حواري حجاجي عقلاني عادل وشامل للقضاء على الهيمنة والاستغلال
الاجتماعي والإيديولوجي، بالعودة إلى معايير وطرق استدلال عقلية شفافة وكونية،
تحقق الاعتراف الكلي والسلمي المتبادل بين المواطنين الأحرار والمتساوين بدون ضغط
أو إكراه.([1])
فمن هو يورغن هابرماس؟ ماهو فكره وفلسفته؟ وماهي
الديمقراطية عنده؟
السيرة الذاتية ليورغن هابرماس([2]):
وصل يورغن
هابرماس إلى درجة من الشهرة والتأثير العالمي لم ينجح الرعيل الأول من ممثلي
النظرية النقدية الاجتماعية والمعروفة في حقل الفلسفة المعاصرة بمدرسة فرانكفورت
في الوصول إليها. فعلى الرغم من الثقل العلمي لأفكار الجيل الأول (هوركهيمر،
أدورنو، ماركوزه، إريك فروم…)، إلا أن هابرماس هو الفيلسوف الوحيد الذي فرض نفسه
على المشهد السياسي والثقافي في ألمانيا كـ"فيلسوف الجمهورية الألمانية
الجديدة" وفقاً لتعبير وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، وذلك منذ أكثر من
خمسين عاماً.
ولد يورغن هابرماس في دسلدورف، شمال الراين- ويستفاليا حاليا W. والده ايرنست هابرماس كان مديراً تنفيذياً لغرفة
الصناعة والتجارة، ووصفه هابرماس الابن كمتعاطف نازي. لقد تربى في أسرة بروتستانتية،
درس في جامعات جوتنجين(1949- 1950) وزيورخ(Zürich (1950- 1951، وبون(Bonn(1951-1955،
ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة من بون في 1954 مع أطروحته " المعنونة المطلق
والتاريخ؛ حول التناقض في فكر شلينغ" The absolute and
history: on the contradiction in Schelling،s thought.
كان من بين لجنة أطروحته اريك روذاكير Erich Rothacker واوسكار بيكر Oskar Becker.
في 1956، درس الفلسفة وعلم الاجتماع تحت يديّ المنظرين
النقديين مثل ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في معهد البحث الاجتماعي/مدرسة
فرانكفورت، لكن بسبب الخلاف بين الإثنين على أطروحته، بالإضافة إلى اعتقاده الخاص
أن مدرسة فرانكفورت كانت قد أَصبحت مشلولة بالشكوكية skepticism والازدراء disdain السياسي للثقافة الحديثة، أنهى دراسته في العلوم
السياسة في جامعة ماربورج Marburg تحت يد الماركسي ولفجانج ابيندروث Wolfgang Abendroth.
دراسته كانت قد عنونت " التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية: تساؤلات ضمن
أصناف المجتمع البرجوازي" The Structural Transformation
of the Public Sphere: an Inquiry into a Category of Bourgeois Society.
في 1961 أصبح أستاذاً في جامعة بورج، في تلك الفترة كان تحركه غير عادي بالنسبة
للمشهد الأكاديمي الألماني، هو اقترح كأستاذ استثنائي (أستاذ بدون كرسي) للفلسفة
في جامعة هيديلبيرج Heidelberg بتحريض من هانز جورج جادامر Hans-Georg Gadamer وكارل لويث Karl Lِwith. في 1964 عاد إلى مدرسة فرانكفرت مدعوماً من قبل أدورنو
لتولي كرسي هوركهايمر في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع.
تسلم منصب مدير معهد ماكس
بلانك Max Planck Institute
في ستيرنبيرج (قرب ميونخ) في 1971، وعمل هناك حتى 1983، اي بعد سنتين من نشر
رائعته، نظرية الفعل التواصلي Theory of Communicative
Action.
بعد ذلك عاد هابرماس إلى كرسيه في فرانكفورت ومديراً لمعهد البحث الاجتماعي. منذ
أن تقاعد من فرانكفورت في العام 1993، استمر بنشر أعماله بشكل واسع النطاق.طرح
خطابا حول تأهيل الدور العام للدين في السياق العلماني، بخصوص تطور الفصل بين
الكنيسة والدولة من الحياد إلى العلمانية الحادّة.
تتلمذ على يديه العديد من
الأساتذة المعروفين الآن. من أبرزهم : عالم الاجتماع السياسي كلوس اوفّ Claus Offe،
الفيلسوف الاجتماعي يوهان ارناسون Johann Arnason، المنظّر الاجتماعي هانز جوس Hans Joas، منظّر التطور الاجتماعي كلاوس ايدير Klaus Eder،
الفيلسوف الاجتماعي اكسل هونيث Axel Honneth (المدير الحالي لمعهد البحث الاجتماعي)، الفيلسوف
الأمريكي توماس مكارثي Thomas McCarthy، الباحث الاجتماعي جيرمي Jeremy J. شابيرو Shapiro، ورئيس الوزراء الصربي المغتاَل زوران دينديك Zoran indic.
مؤلفاته
ومضمونها:
تتمثل الأعمال
الرئيسية لهبرماس في : التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية (1962)، النظرية
والممارسة (1963)، منطق العلوم الاجتماعية (1967)، نحو مجتمع عقلاني (1967)، التكنولوجيا
والعلم كايديولوجية (1968)، المعرفة والمصالح البشرية (1968)، "الهوية
الاجتماعية"(1974)، التواصل وتطور المجتمع (1976)، براجماتيات التفاعل
الاجتماعي (1976)، نظرية الفعل الصريحة (1981)، الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي
(1983)، لمحات فلسفية - سياسية (1983)، الخطاب الفلسفي للحداثة (1985)، المحافظيّة
الجديدة (1985)، تفكير ما بعد الميتافيزيقا (1988)، التبرير والتطبيق (1991)، بين
الحقائق والمعايير: مساهمات لنظرية جدل القانون والديمقراطية (1992)، براجماتيات
التواصل (1992)، تضمين الآخرين (1996)، جمهورية برلين (1997)، مجموعة مقابلات مع
هابرماس، العقلانية والدين (1998)، الحقيقة والتبرير (1998)، مستقبل الطبيعة
البشرية (2003)، أوروبا القديمة، أوروبا الجديدة، قلب أوروبا (2005)، الغرب
المنقسم (2006)، جدل العلمانية (2007).
في الدرس الإفتتاحي الذي ألقاه في جامعة فرنكفورت سنة 1965، أعاد بناء
المعرفة على اساس نقدي شامل... ونشره في كتاب: "التقنية والعلم كأيديولوجيا"
ثم وسعه واستخلصه كنظرية للمعرفة وللمجتمع في كتاب: "المعرفة
والمصلحة"([3])
تبنى الأطروحة التداولية في اللغة لكل من اوستين و فتغنشتين. و بذلك انتقل
من فلسفة المعرفة بمعناها الكلاسيكي إلى فلسفة التواصل. و هو انتقال تجلى واضحا مع
صدور كتابه المعرفة و المصلحة في مطلع السبعينات، إضافة إلى مجموعة مقالات
نشرها مجتمعة بعد صدور كتابه نظرية الفعل التواصلي (1981)، و كان ذلك سنة 1984.
عندما ترجم كتابه العمدة نظرية الفعل التواصلي الى الفرنسية، و ضع
له مقدمة اعلن فيها انه لا يريد صياغة نظرية جامعة مانعة، بل سيكتفي باقتراح
العناصر النظرية الضرورية التي تساعد الفلسفة على إعادة النظر في ذاتها و فهم
ذاتها و ذلك بالدخول في تعاون مع العلوم الاجتماعية على قاعدة الأهمية التي تحظى
بها هذه الأخيرة في النظرية النقدية. هذا و يخلص هابرماس إلى التمييز بين فعل
تواصلي قوي، و فعل تواصلي ضعيف، و هو تمييز واتى في كتابه الحقيقة و
التبرير([4]).
في هذا السياق، انشغل هابرماس بسؤال الأخلاق، لكن لا في بعده
الميتافيزيقي، بل في بعده التواصلي، إذ معه سيدشن ما اصطلح عليه أخلاقيات
النقاش. و يشكل ذلك منعطفا بارزا في تفكيره، ضمنه كتابه الوعي الأخلاقي و
الفعل التواصلي بين فيه ان هدفه هو توظيف منطق نظرية الفعل التواصلي قصد بلورة
نظرية الفعل التواصلي انطلاقا من أخلاقيات النقاش أو الحجاج([5]).
توجه هابرماس في أعماله
وبخاصة في" نظرية فعل التواصل" (1984-1987) إلى فلسفة اللغة ابتغاء
توسيع أساس النظرية النقدية وقد قدم أطروحة صعبة سنجملها في مراحل ثلاث:
1- المرحلة الأولى: يدعو إلى ضرورة التحرر مما
يدعوه "بفلسفة الوعي" التي يعني بها الفلسفة التي ترى العلاقة بين اللغة
والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع (أي التحرر من منظومة الفكر التجريبي).
2- المرحلة الثانية: يمكن أن يتخذ الفعل
صورتين، الفعل الاستراتيجي وفعل التواصل. الأول يتضمن الفعل الغائي العقلاني، في
حين أن فعل التواصل هو ذلك الفعل الذي يرمي للوصول إلى الفهم.
3- يترتب على فعل التواصل الأولية عدة أمور:
أولاً، العقلانية بهذا المعنى
ليس مثالا نقتنصه من السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، إن هذه العقلانية تستلزم
نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً.
ثانياً، ثمة نظام أخلاقي ضمني
يحاول هابرماس الكشف عنه، وهو الأخلاق الكلية الذي لا يتوجه إلى تحليل مضمون
المعايير بقدر توجهه إلى طريقة التوصل إليها، والتوصل إليها -حسب هابرماس- يكون
عبر نقاش حر عقلاني.
أكد في كتابه "ما بعد ماركس" أن الماركسية لم تستنفد كل
طاقاتها وإمكاناتها التحفيزية بوصفها فلسفة تحررية؛ و المطلوب، في اعتقاده، هو
جعلها تساير عصرها و لا تتخلف عنه. أن هذا الأمر يعني بالنسبة لهابرماس إعادة
تأهيل الماركسية لكي تساير متطلبات المجتمع الألماني ما بعد الحرب العالمية
الثانية؛ و هو ما اقتضى تطعيمها بعدة مفاهيم مستقاة من نظرية الفعل التواصلي يقول
:
"رغم
أن نظرية التواصل وظيفة حل المسائل ذات الطابع الفلسفي و التي تهم ابستمولوجيا
العلوم الاجتماعية و أسسها فلها علاقة وثيقة جدا بالمسائل التي تطرحها نظرية
التطور الاجتماعي"([6]
).
قام هابرماس بمحاورة ابرز الفلسفات الألمانية التي عاصرها. و في هذا
السياق قام بما اسماه إعادة البناء النقدي للمادية التاريخية مستلهما في ذلك
التراث النقدي لمدرسة فرانكفورت، و تراث عصر الأنوار. و قد ضمن تلك العملية كتابا
سماه : ما بعد ماركس([7]).
بعد كتاب نظرية الفعل التواصلي (1981) ثم بعد الانشغال بأخلاقيات
النقاش سيصدر هابرماس كتاب الديمقراطية التشاورية و قد أراد منه أن
يكون بديلا للديمقراطية الليبرالية التي دافع عنها رولز في كتاب نظرية
العدالة.
في أوائل 2007، صحيفة
إجناتيوس Ignatius
نشرت حوارا بين هابرماس وبابا الفاتيكان بنيديكت السادس عشر Benedict XVI، عنون ب"جدلية العلمانية" Secularization. عالج
الأسئلة المعاصرة المهمة من مثل: هل الثقافة العامّة للمنطق والحرية المنظمة ممكنة
في عصر ما بعد الميتافيزيقا؟ هل هذا الانحراف عن العقلانية يشير إلى أزمة عميقة
للدين نفسه؟
في هذا النقاش، التغيير
الأخير لهابرماس أصبح واضحاً. بشكل خاص التفكير ثانية بالدور العام للدين. تصريحات
لعلماني صرف نصف قرن وهو يجادل ضد الحجّة الأخلاقية للدين، بعض تصريحاته كانت
مدهشة، ففي مقالة 2004 المعنونة بـ "عصر التحول" كرر:
"المسيحية، ولا شيء
ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى
يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى. نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء
آخر ثرثرة ما بعد الحداثة"!!.
فكره وفلسفته:
أطلق هابرماس الفلسفة من عقالها الميتافيزيقي و أخرجها إلى الفضاء العمومي.
و هذا الأخير مفهوم جديد اهتم به هابرماس في كتاباته الفلسفية كرديف و مرادف
للممارسة اي التأثير الذي يمكن ان تقوم به الفلسفة في الفضاء العام و المجتمع
المعاصر لأنها مطالبة بان تلعب أدوارا مخالفة لتلك التي لعبتها في المجتمعات
السابقة. لم يعد بمقدور الفلسفة ادعاء الشمولية أو التأسيس (هيغل – كنط)؛ بل هي
ملزمة بان تنخرط في هموم المجتمع كالديمقراطية إذ لا فضاء عمومي سليم لا تعمه
الديمقراطية و أخلاقيات الحوار و يتمتع بحقوق الإنسان كما ينبذ العنف.
اعتبر هابرماس أن إنجازه
الرئيسي تطوير مفهوم ونظرية العقلانية التواصلية communicative
rationality،الذي
يميزه عن التقليد العقلاني بتحديد العقلانية في بنى الاتصال اللغوي الشخصي. تقدم
هذه النظرية الاجتماعية أهداف الانعتاق أو التحرر الإنساني، بينما يبقى الإطار الأخلاقي
الشامل.هذا الإطار يستند إلى حجّة تدعى البرجماتية الشاملة universal pragmatics - كل الأفعال الخطابية لَها نهاية متـأصلة — وهي هدف
الفهم المتبادل، وأن البشر يمتلكون القدرة التواصلية لجلب مثل هذا الفهم. بنى
هابرماس إطارا خارج فلسفة الفعل الخطابي لودفيج ويتجينستين Wittgenstein، وأوستن، وجون سيرل Searle، والنظرية الاجتماعية للعرف الثقافي interactional constitution
للعقل لجورج هربرت مييد، ونظريات التنمية الأخلاقية لجين بياجيه Piaget
ولورانس كولبيرج Kohlberg،
وأخلاقيات الخطاب لكارل هيديلبيرج - اوتو ابل Heidelberg colleague
Karl-Otto Apel.
مصادر فكره وفلسفته([8]):
بنى هابرماس إطارا شاملا
للنظرية الاجتماعية ورسم الفلسفة من خلال عدد من التقاليد الثقافية:
-
الفكر الفلسفي الألماني
لإمانويل كانت Kant،
فريدريك سكيلينج Schelling،هيجل
Hegel،
فلهلم Wilhelm،
إدموند هسرل Husserl،
وهانز جادمير Gadamer
-
التقاليد الماركسية Marxian
نظرية كارل ماركس نفسه، بالإضافة إلى النظرية الماركسية الجديدة النقدية لمدرسة
فرانكفورت، وبمعنى آخر: ماكس هوركهايمرHorkheimer، أدورنو Adorno، وهيربيرت ماركوس Marcuse…
-
النظريات الاجتماعية
لماكس ويبير Weber،
اميل دوركايم Durkheim،
وجورج هيربيرت مييد Mead
-
الفلسفة اللغوية ونظريات
الفعل الخطابي speech act theories
لودفيج ويتجينستين Wittgenstein،أوستن Austin،ستراوسون Strawson، ستيفن تويلمين Toulminوجون سيرل Searle.
-
علم نفس النموdevelopment psychology
لجين بياجيه Piaget
ولورانس كولبيرج Kohlberg
-
التقاليد البراجمتية
الأمريكيِة American pragmatist
لتشارلز ساندرز بيرس Peirce،
وجون ديوي Dewey
-
نظرية النظم الاجتماعيةِ
لتالكوت بارسونز Talcott Parsons،
ونيكلس لوهمان Niklas Luhmann
-
الفكر الكانتي الجديد Neo-Kantian
ما المقصود
بالعقلانية التواصلية؟
يعتبر هابرماس هذه العقلانية سمة من سمات الفكر ما بعد الميتافيزيقي؛ و يطلق
عليها أحيانا العقلانية الإجرائية، أي المتجسدة في الممارسة
الحجاجية.
يتصور
يورجن هابرماس النظرية التواصلية، و "الوضع المثالي للكلام"
في نطاق موقف فكري شامل، يستهدف بناء نظرية المعرفة والمجتمع معا. أي نظرية تبحث
كيفية تحقيق الشروط التي يستطيع فيها المجتمع الحديث أن يرقي قواه بالمعرفة
والتقنية على أساس من الحقيقة، ويرقي بنياته المعيارية الكونية على أساس من العدل،
مما دفعه إلى رفض مسلمات الأيديولوجية الوضعية والميتافيزيقية :
"ورفض
نموذج الوعي المرتبط بفلسفات الذات، مفضلا عليها نموذج التفاعل المستمر بين الذوات
من خلال الفعل التواصلي"([9]).
إن
هذا الانشغال الشامل بالحقيقة، والمعيار العادل، قد دفعه إلى نقد المذاهب
(الجوهرية) الدينية، والميتافيزيقية والوضعية، وتجريدها من أي دور مستقبلي، لأنها
أصبحت خارج الاهتمام الفلسفي للخطاب العقلاني الحديث... ولم يبق من بديل إلا العقل
الإجرائي التواصلي "أي مجموعة القواعد والمعايير التي تضمن الطابع
الديمقراطي الصارم للحوار"([10])
بين المذاهب والمواطنين والذي يعتمد على
"الشروط الإجرائية المثالية للكلام" التي تحقق المجتمع كنظام منصف
للتعاون بين المواطنين الأحرار حسب تعبير رولز. فالنظرية التواصلية تفتح الحوار
بتخليصه مما أسماه هيجل بـ الكلية الأخلاقية ومن مقدمات فلسفة الوعي"([11])،
وتسمح للأفراد بالاندماج
الاجتماعي الديمقراطي في المعايير الكونية للعدل والحقيقة من دون إكراه خارجي وفقا
لأحسن الحجج([12]).
الديمقراطية
الصورية عند هابرماس:
إذا كان التطور العلمي والمادي يوسع المنافع ويرفع من استقلالية وسيطرة
المجتمع على الأشياء فإن تطور المشاركة الإجتماعية والإرادة الإندماجية للنسق
الإجتماعية (كالديمقراطية) تضايق حركية النسق، وتقوي رفض الأفراد لقرارات مراكز
الضبط والسلطة... بهذا يحاول هابرماس أن يتجاوز الطرح الذي أثاره هوركايمر وأدورنو
وماركيوز الذين اكتفوا بإدانة العقلانية الأداتية التي وسعت سيطرة الإنسان على
الطبيعة، وأوقعته تحت أخيه الإنسان، فالمهمة أصبحت واضحة مع هابرماس وتتعلق بكيفية
التغلب على الطبيعة الداخلية (الأنانية والعدوان الخ) وتطوير الحرية والديمقراطية([13]).
إن
هذه الغاية تتطلب إعادة صياغة بناء الإرادة السياسية وممارستها، والتمييز بين إطار
السلطة التقنية وإطار السلطة الديمقراطية.... والسلطة الديمقراطية هي الأشكال
المؤسساتية المنبثقة عن التواصل العمومي والمكرسة لمبدأ كيف يستطيع الناس ويريدون
العيش جماعيا؟ في إطار الشروط الموضوعية المحددة بالسلطة الهائلة التي
يملكونها على الأشياء([14])
... وإن مؤسسات الدولة الديمقراطية (الشكلية) نفسها قد نظمت بشكل يسمح للأقلية
البيروقراطية بأن تقرر بمعزل عن الدوافع الحقيقية للمواطنين "تمكنها من
ذلك ايديولوجية التسويغ الشرعي الفضفاضة التي تطلق وعودا عامة وتضمن بها ولاء
الجماهير عن طريق تفادي إشراكها السياسي في القرار"([15])
كما أن المجتمع المدني الذي حيد من دوره السياسي بدعوى أنه مجال للتبادل
الحر بين الحقوق الخاصة، قد قل الإهتمام به من طرف الباحثين الذين تجاهلوا اعتباره
"حقلا عموميا مستقلا عن الدولة وقابلا للتجاوب والتفاعل"([16])
إن ما يميز الديمقراطية وإجراءات القرار التابعة لها، لا يتأسس على مبدأ
الإجماع وإنما بالقبول بالصراعات والسجالات. فحتى إن أتاحت هذه الإجراءات اتخاذ قرارات
جماعية ومؤقتة، فهي تفترض مسبقا وعلى الدوام وجاهة الجدل وشرعية الصراع المرتبط
بالقيم أو المصالح – محل رهان – بالنسبة لإصدار معايير قانونية([17]).
وتظل التبريرات الشرعية للمعايير القانونية في ظل المجتمع الديمقراطي رهانا
للنزاع والصراع المسموح له بهما، والذي يتم تجاوزهما بواسطة هدف التوافق المنشود.([18])
والتصور الثابت عن الديمقراطية الكلاسيكية يقول بأن
القرارات الجماعية داخلها ما هي إلا نتاج لركام من القرارات يتخذها كل فرد لحسابه([19])
ينضاف هذا إلى عجز الديمقراطية الحالية
في المجتمعات المتقدمة التي أصابتها في مقتل، بحيث اضمحلت "كجوهر ثقافي
للتضامن بين المواطنين، كما ترعرع في إطار الدولة الوطنية"([20]).
نظرية
الديمقراطية التشاورية عند هابرماس:
هابرماس ينتمي إلى اتجاه اهتم
منذ سنوات السبعينات من القرن الماضي بالإجابة عن التساؤل آلاتي:
كيف يمكن للمواطنين في الدولة الديمقراطية أن يتعايشوا في شروط عادلة؟([21])
ونظرية الديمقراطية التشاورية التي كرس لها هابرماس أعماله المتأخرة، ابتداء
من التسعينات، تعد أهم انجاز في ميدان الفلسفة السياسية المعاصرة. و تعد نظرية
الديمقراطية التشاورية توسيعا لمجال الفعل التواصلي؛ إذ لا يمكن فصل التشاور عن
هذا الفعل التواصلي الذي نظر له هابرماس قبل أخلاقيات النقاش.
بنى هابرماس نظريته حول "الديمقراطية التواصلية" على أنقاض نقد
الدولة الرأسمالية وإيديولوجيتها التكنوقراطية([22]).
ويمكن ملاحظة أن
مناقشة هابرماس للرأسمالية الحديثة تفتقد للحماس الذي اتسمت به أعمال الرعيل الأول
لمدرسة فرانكفورت. فهابرماس يرى في الرأسمالية، أساساً، مرحلة يمكن أن تنحرف فتؤدي
إلى كارثة، لكنها عنده ليست شراً مستطيراً. ولقد ركز شأن الرعيل الأول على ظاهرة
الهيمنة التقنية والعقل الأداتي السائد في هذا النظام. وحول ماركس يرى هابرماس أن
الجزء المبدع لأعماله أصبح مدفوناً تحت خرسانة النزعة الأداتية والوصفية. ويرى
هابرماس أن مسؤولية ذلك على عاتق ماركس نفسه، وعلى تركيزه تركيزاً شديداً على
العمل باعتباره الخاصية المميزة للبشر.
إن الفكرة المحورية لمشروع هابرماس في كتابه الديمقراطية التشاورية
هي تأسيس الديمقراطية على أساس جماعة متواصلة خالية من أية هيمنة عدا هيمنة أفضل
حجة.كما أن مفهوم التشاور المرتبط بأخلاقيات
يعد مفهوما مركزيا لديه. ففي التشاور يعطى لكل عضو في الجماعة الحق في الكلام و
الفعل بخصوص القضايا السياسية و...المطروحة في الفضاء العمومي. و في ظل ذلك النقاش
العقلاني المؤسس يتشكل الرأي العام و الإرادة السياسية العامة للمواطنين في
المجتمع الديمقراطي الذي يلعب فيه التشاور دورا مركزيا.
هكذا تمثل مساهمات هابرماس في مجال الفلسفة السياسية و خاصة في نظرية الديمقراطية التشاورية مساهمة
نوعية تندرج في اطار نقد أشكال الأنظمة الشمولية كالنازية.
يقوم نموذج الديمقراطية التشاورية على الرغبة في تجاوز الليبرالية
المتوحشة والنزعات الشمولية. فالتضامن هو أساس الاندماج الاجتماعي في الديمقراطية
التشاورية بصفة أعضاء المجتمع مواطنين في الدولة اي أصحاب الحق الأحرار المتساوين أمام
القانون.
فالنموذج التشاوري للديمقراطية، هو في اعتقاد هابرماس نموذج تواصلي. في هذا
المنظور مفهوم السلطة. فإذا كان في كتاباته الأولى نحا على السلطة باللائمة معتبرا
إياها مرادفا للهيمنة باعتبار ركيزتها هي المال و الإعلام؛ و هي كلها عوائق أمام
تحقيق التواصل الشفاف في المجتمع، فانه في أعماله COMMUNICATIVE
POWER المتأخرة عدل موقفه بان تحدث
عن السلطة التواصلية
التي أصبحت مفهوما متداولا في آرائه بخصوص الديمقراطية التشاورية. أن
السلطة التواصلية سلطة غير قمعية و غير قهرية؛ ليس قوامها الإكراه و الهيمنة، لأنها
نابعة من الفعل الجماعي. أنها التواصل السياسي عندما يغدو مؤسسات في دولة الحق و
القانون[23].
يعكس مفهوم السلطة التواصلية محاولة من هابرماس لإعادة صياغة و تحديد
نظرية التعاقد الاجتماعي عند روسو بجعل العلاقة بين السلطة و المواطنين
علاقة أفقية بدل أن تكون عمودية، معتقدا بذلك أن هذا القلب هو ما يضمن أن تكون
السيادة للفعل فعلا.
هكذا نلاحظ التحول الكبير الذي حصل في فلسفة التواصل لدى هابرماس من تأسيس
التواصل على اللغة إلى تأسيسه سياسيا؛ و هو تحول آتى في مطلع التسعينات من القرن المنصرم.
خاتمة:
لقد وجهت
لهابرماس مجموعة انتقادات أهمها اثنان:
1- لم يثبت
ولا يستطيع أن يثبت أولوية فعل التواصل على الفعل الاستراتيجي.
2 – مرتبط
بالنقد الأول، أن أطروحته حول الانعتاق والتحرر لم تثبت، ليس هذا فقط، بل إن
محاولة إقامة النقد على التفرقة بين النقد والحياة اليومية تقوض وضع التحرر الذي
يزعمه والمشكوك فيه أصلاً. وبذلك يظهر أن مشروع هابرماس يعاني بمجمله من تناقض في
الأهداف، فإن أخذنا مشروعه الأكبر بأوضح معانيه، فسيظهر أن محاولة تأمين أولوية
التواصل في فلسفة اللغة، تجهضها تلك التفرقة التي يقيمها بين النسق والحياة
اليومية. وهكذا إن إعطاء الأولوية لطرف على آخر في معادلة الفعل أو البنية تقوض
النظرية من عروشها.
وإذ أقدمت هذه
الدراسة حول هابرماس مازلت أشعر بثقل المهمة لصعوبة أبجديات الفلسفة التي يطرحها،
بالإضافة إلى المصطلحات التي صكّها والتي تحتاج منّا وضعها في سياقاتها التي
أرادها لها صائغها. إنني أعتبر هابرماس نموذجاً للمثقف الديناميكي الذي يتفاعل مع
حركة المجتمع والتاريخ، إيمانا منه أن النظرية تحتاج دائماً إلى أن تدلل على نفسها
كلما حاولت أن تطبق نفسها في ميدان أو آخر.
قائمة المصادر
والمراجع:
- J.Habermas(200), Apres l’Etat-Nation.
- J.Habermas, Après Marx , Trad .J .Ladmiral, Paris,
1985.
- J.Habermas,
Droit et democratie, Trad .R. Rochlitz, Paris, 1997.
- J.Habermas, la technique et la science
comme idéologie
- J.Habermas, Morale et communication , Paris, 1986.
(ed.Flammarion)
- J.Habermas, Raison être légitimité.
- J.Habermas, Verité et justification, Trad .Rainer
Roschlitz, Paris, 2001.
- حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت: النظرية
النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2005.
- عبد القادر بليمان ، دراسات فلسفية في
الأخلاق والسياسة (نحو رؤية تحليلية للحالة العربية)، مؤسسة كنوز الحكمة، الأبيار
الجزائر، 2012، ص 183
- عبد القادر بليمان، الأسس العقلية للسياسة، ديوان المطبوعات
الجامعية، بن عكنون، الجزائر.
- عصام عبد الله، يورغن هبرماس، سيرته
وفلسفته، مطابع الهيئة العامة للكتاب.
- موسوعة ويكيبيديا (باللغة العربية)، يرغن هابرماس، جوان 2013.
[3] - - عبد القادر بليمان، الأسس العقلية للسياسة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن
عكنون – الجزائر، 2007، ص ص 225-226.
[9] - عبد القادر بليمان ، دراسات
فلسفية في الأخلاق والسياسة (نحو رؤية تحليلية للحالة العربية)، مؤسسة كنوز
الحكمة، الأبيار الجزائر، 2012، ص 183 (عن: عصامعبد الله، يورغن هبرماس، سيرته وفلسفته،
مطابع الهيئة العامة للكتاب، ص 108).
[13] - عبد القادر بليمان، الأسس
العقلية للسياسة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون – الجزائر، 2007، ص 222.
[17] - حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة
فرانكفورت: النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء
المغرب، ط1، 2005، ص 194.
[21] - عبد القادر بليمان، الأسس
العقلية للسياسة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون – الجزائر، 2007، ص 181.
[22] - عبد القادر بليمان، الأسس
العقلية للسياسة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون – الجزائر، 2007، ص 196.
[23]- J.Habermas, Droit et democratie, Trad .R. Rochlitz, Paris,
1997, p. 189.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق